بعد ما يزيد عن أربعة سنوات من المحاكمة، جاء قرار المحكمة الاتحادية بتأييد قرار حبس وتغريم رئيس الوزراء الماليزي السابق نجيب رزاق في قضية اختلاس أموال شركة “إس آر سي” الدولية التابعة لصندوق التنمية الماليزي السيادي “وان إم دي بي”. الحكم جعل من نجيب أول رئيس وزراء ماليزي يدخل السجن، حيث رفضت رئيسة القضاة طلب الدفاع بتأجيل التنفيذ لمراجعة الحكم وأمرت بإيداعه في السجن بداية من اليوم. وفي محاولته للدفاع عن نفسه، كان نجيب طوال فترة المحاكمة يدفع باعتقاده أن ملايين الرنجات في حسابه الشخصي جاءت من تبرع سعودي وليست من أموال الشركة، وهو ما اعتبرته المحكمة مجرد حجة لا أساس لها من الصحة.
حكم نهائي بالسجن والغرامة
أجمعت محاكم ماليزيا بمختلف درجاتها على صحة القرار الذي اتخذته محكمة كوالالمبور العليا في 28 يوليو 2020 بسجن رئيس وزراء ماليزيا السابق نجيب رزاق 12 عامًا وتغريمه 210 ملايين رنجت ماليزي (حوالي 47 مليون دولار أمريكي) بتهمة اختلاس 42 مليون رنجت من أموال شركة إس آر سي الدولية. وفي محاولته الأخيرة للطعن في صحة القرار، رفضت هيئة قضائية بالمحكمة الاتحادية، مؤلفة من خمسة أعضاء بقيادة رئيسة القضاة ميمون توان مات، استئناف نجيب لإلغاء الإدانة والعقوبة. كان قد فشل نجيب البالغ من العمر 69 عامًا، في 8 ديسمبر 2021، في إلغاء الحكم بعد أن أيدت محكمة الاستئناف قرار المحكمة العليا. أكدت رئيسة المحكمة أن القضاة فحصوا أدق التفاصيل في القضية المنظورة أمامهم، وخلصوا جميعًا إلى أن الإدانة كانت صحيحة في جميع التهم السبع وأن العقوبة لم تكن مبالغًا فيها وأمرت بإيداعه في السجن على الفور.
ومع الفصل في هذه القضية، يظل نجيب على موعد مع أربع قضايا أخرى تضم ما يزيد عن 30 اتهاما مشابها، أبرزها قضية فساد صندوق التنمية الماليزي الكبرى والمنظورة حاليا أمام المحكمة.
أربع سنوات من المحاكمة
بدأت قضية اختلاس أموال شركة “إس آر سي” في عام 2018، بعد السقوط المدوي للجبهة الوطنية خلال الانتخابات العامة الرابعة عشر، والذي كان مدفوعًا بغضب شعبي من تورط رئيس الوزراء آنذاك نجيب رزاق وعدد من كبار مسؤولي حكومته في قضايا فساد الصندوق السيادي الذي بات يُعرف بأكبر عملية احتيال في العصر الحديث. فعقب صعود تحالف الأمل بزعامة مهاتير محمد إلى السلطة، بدأ توجيه الاتهام لنجيب رزاق في عدة قضايا فساد متعلقة بالصندوق السيادي ومنها قضية اختلاس 42 مليون رنجت ماليزي (10 ملايين دولار أمريكي) من شركة إس آر سي الدولية التي تنطوي على سبع تهم تنوعت بين خيانة الأمانة وغسيل الأموال وإساءة استخدام السلطة.
نجح نجيب خلال فترة حكمه في احتواء التحقيقات المتعلقة بالفضيحة، لكن الهزيمة المفاجئة عام 2018، أعادت فتح التحقيقات. ومع انهيار حكومة تحالف الأمل في فبراير 2020 وعودة حزب أومنو شريكًا في السلطة، توقع البعض إفلات نجيب وخاصة بعد إسقاط التهم عن ربيبه المتهم في عدة قضايا مرتبطة بالصندوق، لكن حكم اليوم قطع الشك باليقين وأكد إدانة نجيب بجميع التهم الموجهة إليه.
الصندوق السيادي
صندوق التنمية الماليزي السيادي والمعروف اختصارًا بـ “وان إم دي بي” هو صندوق سيادي تم إنشاؤه في عام 2009 على يد رئيس الوزراء ووزير المالية حينها نجيب رزاق وبمساعدة رجل الأعمال الهارب حاليًا جوه لو، بهدف تعزيز التنمية الاقتصادية للبلاد. ترأس نجيب حكومة ماليزيا بين عامي 2009 و2018، وكان رئيس المجلس الاستشاري للصندوق حتى عام 2016.
الصندوق الماليزي استطاع جمع مليارات الدولارات لاستخدامها في مشاريع استثمارية بين عامي 2009 و2013، تضمنت محطات توليد الطاقة في ماليزيا والشرق الأوسط إضافة إلى العقارات في كوالالمبور. بدأ تسليط الأضواء على الصندوق عام 2014 على خلفية ديون بقيمة 11 مليار دولار، تلتها تسريبات بدخول 681 مليون دولار إلى حسابات نجيب الشخصية.
الخزانة الأمريكية أعلنت في ذلك الوقت أن نحو 4.5 مليار دولار من تلك الأموال تم تحويلها إلى حسابات مصرفية وشركات وهمية مرتبطة برجل الأعمال الهارب، بينما تقول السلطات الماليزية أن باقي الأموال لم يُعرف مصيرها حتى الآن. القضية التي يحقق فيها ست دول منها الولايات المتحدة وسنغافورة أكدت وجود عملية احتيال دولية وتمت مصادرة بعض الممتلكات والأموال المتعلقة بالصندوق خارج ماليزيا وإعادتها للحكومة الماليزية. ورغم أن التحقيقات الأمريكية لم تذكر اسم نجيب رزاق صراحة إلا أنها أشارت إلى أنه المسؤول الماليزي الأول، بينما أصبح جوه لو مطلوبًا في كلا من ماليزيا وأمريكا. كما وافق بنك جولدمان ساكس الأمريكي، قبل عامين، على تسوية تزيد قيمتها عن 5 مليارات دولار أمريكي لرفع اسم البنك من التحقيقات حول دوره في بيع سندات الصندوق الماليزي.
شعبية نجيب
رغم تورطه في خمس قضايا فساد متعلقة بالصندوق السيادي وكيانات حكومية أخرى، إلا أن نجيب ما زال يحظى بشعبية واسعة بين أنصار حزب أومنو، والذين تواجدوا أمام المحكمة اليوم لإظهار دعمهم له. وفي دفاعه عن نفسه، يزعم نجيب أنه لم يكن يعلم أن الملايين التي دخلت حساباته الشخصية جاءت من أموال الصندوق لأنه كان يعتقد كونها تبرعًا سعوديًا، وأن ما حدث كان مؤامرة ضده من رجل الأعمال الهارب وأطراف أخرى. وقبل صدور قرار المحكمة الاتحادية في استئنافه الأخير، واجه نجيب مناصريه بأنه لا يحظى بمحاكمة عادلة، خاصة بعد رفض هيئة المحكمة تأجيل جلسات المرافعة لإعطاء فريق دفاعه الجديد وقتًا كافيًا لدراسة القضية. كما حاول نجيب إزاحة رئيسة القضاة من منصة المحكمة، بدعوى أن زوجها كتب منشورًا سلبيًا عن قيادة نجيب بعد خسارته في الانتخابات عام 2018 ما يعني وجود تحيز محتمل، لكن القضاة رفضوا هذا الطلب أيضًا. ومن ضمن المحاولات كذلك، طلب نجيب إعادة المحاكمة متهمًا قاضي المحكمة العليا محمد نزلان محمد غزالي بالانحياز ضده.
أنصار نجيب كانوا قد بدأوا هجومًا واسعًا على ميمون، وهي أول رئيسة قضاة في ماليزيا تم تعيينها في عام 2019، عبر وسائل التواصل الاجتماعي الأسبوع الماضي ووصل الأمر إلى تهديدها بالقتل. نجيب رزاق أحد أبرز الأسماء في تاريخ ماليزيا، كان والده ثاني رئيس وزراء للبلاد بينما تولى عمه منصب ثالث رئيس وزراء لماليزيا. تلقى تعليمه في بريطانيا ودخل معترك السياسة عام 1976 ليصبح أصغر نائب في البرلمان عن عمر يناهز 22 عامًا، وأصغر نائب وزير على الإطلاق بعد ذلك بعامين.
المستقبل السياسي
بالنسبة لنجيب، دمر حكم اليوم وضعه السياسي حيث خسر مقعده في البرلمان عن دائرة بيكان فور دخوله سجن كاجانج الليلة. أضف إلى ذلك حرمانه من خوض أي انتخابات قادمة، إلا إذا حصل على عفو ملكي مثلما حدث مع زعيم المعارضة أنور إبراهيم عام 2018. وهو أمر لا يمكن التنبؤ به حاليا نظرا لوجود أربعة قضايا فساد أخرى مفتوحة ضد نجيب. بالنسبة لحزب أومنو الذي تعافى من وصمة الفساد التي أفقدته السلطة في الانتخابات العامة الأخيرة، بات واضحا أن عليه الاستمرار دون نجيب. ويبدو أن الاجتماع الطارئ الأخير لقادة الحزب كان -كما توقعت التكهنات- بهدف الاستعداد لمثل هذا القرار أو الضغط على رئيس الوزراء للتدخل في عمل المحكمة وطلب تأجيل الاستئناف لشهرين على الأقل. وكان أومنو وإسماعيل صبري قد نفوا تلك التكهنات سريعا.
ومع قرار اليوم بسجن أحد أعمدة الحزب، من المتوقع أن يدفع أومنو رئيس الوزراء الذي يشغل منصب نائب رئيس الحزب إلى حل البرلمان في أسرع وقت. وذلك لتفادي وصول قادة آخرين إلى مصير نجيب، خاصة مع بروز قضية فساد جديدة متورط فيها رئيس الحزب أحمد زاهد حميدي، والمعروفة باسم فضيحة سفن القتال الساحلية. وهي قضية تحاول المعارضة استخدامها ضد أومنو مثل ما حدث عام 2018.