حظي الجامع الأزهر بمكانة متقدمة في وجدان الشارع الماليزي والقيادة السياسية، باعتباره مصدر العلوم الشرعية ومرجع الفتوى في العصر الحديث. وترجم ذلك التواجد الكثيف لطلاب ماليزيا في القاهرة وزيارات وفود ماليزيا الرسمية للمشيخة وقادة الأزهر. ومع وجود ما يزيد عن سبعة آلاف خريج أزهري في ماليزيا، فإن دور الفكر الأزهري يكاد يلامس أغلب مفاصل الدولة ودور العبادة.
اليوم العالمي للأزهر في ماليزيا
بمناسبة اليوم العالمي للأزهر، أقامت المنظمة العالمية لخريجي الأزهر في ماليزيا احتفالا في أكاديمية الدراسات الإسلامية بجامعة الملايا، حضره سفير جمهورية مصر العربية لدى كوالالمبور وعدد من خريجي الأزهر. الاحتفال جاء بالتزامن مع إحياء الأزهر الشريف ذكرى مرور 1084 عامًا هجريًّا على تأسيس الجامع الأزهر، والتي توافق السابع من شهر رمضان الفضيل من كل عام.
خلال الحفل الماليزي، تم بث كلمة مصورة لرئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم، دعا فيها لمواصلة الحفاظ على تقاليد “المعرفة والحكمة” الخاصة بجامعة الأزهر في جمهورية مصر العربية، لتحقيق وعي واسع النطاق بين المسلمين في منطقة جنوب شرق آسيا. أنور الذي وصل للسلطة قبل نحو ستة عشر شهرا، يرى أن تاريخ الإسلام الحديث لا ينفصل عن تاريخ التغيير والإصلاح الذي جاء به الأزهر، بل يتكامل مع نضال ووعي المسلمين في آسيا.
ثناء رئيس الوزراء لم يكن الأول من نوعه، بل أنه خلال زيارته الرسمية القصيرة إلى مصر أكتوبر الماضي على خلفية أحداث غزة، حرص على لقاء شيخ الأزهر أحمد الطيب، ودعاه لزيارة ماليزيا هذا العام.
مصدر العلم ومرجعية دينية
الإسلام هو الدين الرسمي في ماليزيا رغم تعدد الأديان والأعراق داخل المجتمع الماليزي، حيث يشكل المسلمون نحو 60% من السكان، بينما تشكل البوذية ما يربو إلى 20%، تليها المسيحية بنحو 9% والهندوس 6%.
والعلاقة بين ماليزيا والأزهر نشأت بعد الاستقلال في خمسينات القرن الماضي، فكانت البداية من إرسال الطلاب إلى الجامع الأزهر بأعداد محدودة لتلقي العلوم الشرعية، إلى أن وصل عدد الطلاب الماليزيين في جامعة الأزهر حاليا أكثر من 8 آلاف طالب وطالبة في مختلف الكليات، مع تقديم مصر نحو 30 منحة دراسية لطلبة ماليزيا سنويا. فيما تخرج ما يزيد على 70 ألف ماليزي من الأزهر حتى الآن. أما داخل ماليزيا، فتملك المشيخة معهدا أزهريا يسمى “دار القرآن” يضم 8 مبتعثين أزهريين يُدرسون العلوم الشرعية والعربية. ومن ضمن الأنشطة المعتادة تنظيم دورات تدريبية لأئمة ماليزيا وتعزيز قدراتهم فى تفنيد فكر الجماعات المتشددة والمتطرفة ومحاربتها.
القائمين على شؤون الدين الإسلامي في ماليزيا ينظرون إلى الأزهر باعتباره منبع العلم الشرعي والمرجع الأساسي للفتوى، وهو ما أكده مفتو البلاد في مناسبات عدة. بينما يرد الأزهر بأنه محطة تأهيل لطلاب ماليزيا والطلاب الوافدين بالمنهج الأزهري الوسطي باعتباره مصدر الأمن والطمأنينة في مجتمعاتهم على حد وصف الإمام الأكبر. وتقديرا لدور الأزهر، قامت ماليزيا بتسمية شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب الشخصية الإسلامية الأولى لعام 1442هـ/2020م، في حدثها السنوي بمناسبة المولد النبوي الشريف، وهي جائزة يقدمها ملك البلاد ورئيس وزرائها للشخصيات الأكثر تأثيرا في العالم الإسلامي.
وعلى المستوى الشعبي، خاصة في القرى والمناطق الريفية، اعتاد ميسوري الحال على تبني طلبة العلم الشرعي عبر إرسالهم إلى الأزهر والتكفل بمصاريف دراستهم، مع اعتبار خريجيه من أهل العلم والصلاح.
المنظمة العالمية لخريجي الأزهر
المنظمة العالمية لخريجي الأزهر بالقاهرة منظمة غير حكومية تم تأسيسها عام 2007، على يد مجموعة من كبار علماء الأزهر، وبادرت ماليزيا لاحتضان فرع للمنظمة عام 2009، وأصبح لها حاليا أربعة مكاتب في أربعة ولايات ماليزية. ويرى القائمون على فرع المنظمة في ماليزيا وفي مقدمتهم الأستاذ الدكتور محمد فخر الدين عبد المعطي رئيس المنظمة العالمية لخريجي الأزهر فرع ماليزيا، أن الأزهر الشريف جامعًا وجامعةً هو مؤسسة تعليمية إسلامية عريقة نشأت منذ أكثر من ألف عام تنتهج الوسطية في توضيح حقائق الدين وأصالته ويناهض سوء الفهم والأباطيل. الملتقى الوطني لخريجي الأزهر كان أحد أنشطة فرع ماليزيا، وتم تنظيمه سنويا بين 2013 و2020، وحرص على حضوره القيادة السياسية بمن فيهم رئيس الوزراء السابق نجيب رزاق وزعيم الحزب الإسلامي الماليزي عبدالهادي أوانج.
مؤتمر الملايو في القاهرة
وفي فبراير الماضي، نظم فرع المنظمة العالمية لخريجي الأزهر بماليزيا بالاشتراك مع أكاديمية الدراسات الإسلامية بجامعة الملايا الماليزية وجامعة السلطان الشريف علي الإسلامية، بروناي دار السلام، مؤتمرا دوليا بمركز الشيخ زايد لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها في القاهرة، تحت عنوان “التراث الإسلامي في عالم الملايو .. الأزهر منهجًا ومرجعًا”. المؤتمر أقيم تحت رعاية شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب وحضره قيادات الأزهر الشريف وعدد من سفراء ورؤساء جامعات دول جنوب شرق آسيا، وناقش على مدار يومين محاور متنوعة من الدراسات التراثية والمعاصرة والقانون والسياسة الشرعية، والمعاملات الإسلامية المالية، وغيرها. خلص المؤتمر إلى ضرورة تعزيز التعاون بين الجهات المنظمة من ماليزيا وبروناي مع علماء الأزهر خاصة في ظل الثروة البشرية الضخمة من خريجي الأزهر داخل جامعات ومراكز أبحاث مؤسسات الأرخبيل. إضافة إلى التركيز على توحيد الخطاب في مواجهة الفكر المتطرف والإرهاب، وتكثيف جهود تعليم العربية للناطقين بغيرها من شعوب الملايو.
الموازنة بين الأشعرية والسلفية
في السنوات الأخيرة، ظهرت السعودية كوجهة جديدة لطلاب العلم الماليزيين والآسيويين بكل عام في الدول العربية. ومع جهود المملكة ورفع مستوى الخدمات المقدمة لزوارها والمقيمين فيها، نجحت في استقطاب أعداد كبيرة من الطلبة الماليزيين في المجالات الشرعية والعلمية، بل وخصصت 300 منحة دراسية لطلاب الملايو بشكل سنوي. في المقابل حرصت ماليزيا على الاستفادة من تلك المميزات وطلبت من قيادة المملكة زيادة عدد المنح وعمل الجانبان على تيسير الأمور المتعلقة بالتأشيرات وإجراءات السفر. ولعل من أبرز خريجي السعودية من مسؤولي ماليزيا وزير الشؤون الدينية السابق ذو الكفل محمد البكري، أحد أنشط الوزراء في مجاله، والحاصل على المركز الأول بجائزة الخريجين الروَّاد من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 2022. وفي عام 2021، منحت ماليزيا الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى الأمين العام لرابطة العالم جائزة الهجرة النبويَّة للشخصية الإسلامية الأولى تقديراً لجهوده في تعزيز قيم الوسطيّة والتعايش والسلام، وقد منحته مملكة ماليزيا أعلى ألقابها بدرجة داتو سري عام 2017.
والمراقب لتوجه القيادة الدينية والسياسية الماليزية يجد حرصا على انتهاج الوسطية في الإسلام وتبني أجندة مكافحة الإسلاموفوبيا مع تعاقب حكومات ذات خلفيات سياسية متباينة في السنوات الأخيرة، وتعمل على ذلك مع كافة الأطراف بما في ذلك السعودية والأزهر ومنظمة التعاون الإسلامي. الأمر الذي يأتي في إطار ما تطمح إليه ماليزيا من دور إقليمي ديني رغم صغر تعدادها مقارنة بجارتها إندونيسيا صاحبة أكبر تعداد للمسلمين عالميا.