بكين تحتوي جيرانها وبوتراجايا تبحث عن التوازن
حافظ رئيس الوزراء أنور إبراهيم على ترتيب الزيارات الخارجية التي اتبعها سابقيه من رؤساء وزراء ماليزيا، فبدأ بجيرانه المباشرين إندونيسيا وسنغافورة وبروناي والفلبين وبعض دول الآسيان، واختار المملكة العربية السعودية الشريك المهم في الشرق الأوسط. ثم كان دور الصين خارج حدود الآسيان.
حظيت الزيارة الأولى لرئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم إلى الصين بتغطية إعلامية محلية واسعة بدأت قبل انطلاقه إلى مقاطعة جزيرة هاينان لإلقاء خطاب في منتدى بواو الآسيوي السنوي، واستمرت بكثافة خلال تواجد في العاصمة بكين لترصد كافة تحركاته ولقاءاته مع المسؤولين الصينيين وعلى رأسهم الرئيس شي جين بينغ واستقباله من قبل رئيس الوزراء لي تشيانغ.
تعاون تاريخي وتجارة مزدهرة
تتمتع ماليزيا بعلاقات قوية مع الصين، ويشهد العام الجاري الذكرى السنوية العاشرة للشراكة الاستراتيجية الشاملة، وهي أول شراكة رفيعة المستوى بين ماليزيا ودولة أخرى. كما يحتفل البلدان بمرور خمسين عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية عام 2024. الزيارة التي استمرت ثلاثة أيام، اعتبرها وزير خارجية ماليزيا بداية صفحة جديدة في تاريخ العلاقات بين البلدين. ورغم وجود عدد من القضايا الحساسة، تظل العلاقة بين ماليزيا والصين إيجابية ومثمرة. لذا ينصب تركيز أنور على التعاون الاقتصادي، نظرًا لكون الصين أكبر شريك تجاري لماليزيا منذ عام 2009، وكذلك أحد أهم مصادر الاستثمار الأجنبي المباشر في عدة قطاعات حيوية مثل التكنولوجيا والبنية التحتية. فقد بلغ إجمالي التجارة الثنائية 110.6 مليار دولار أمريكي في عام 2022، بزيادة 15.6٪ عن عام 2021. وكانت الصين أيضًا المستثمر الأول في ماليزيا العام الماضي بنسبة 21% من استثمارات كوالالمبور البالغة 264.6 مليار رنجت.
ترجمة لهذا الاهتمام، رافق أنور في رحلته خمسة وزراء ووفد تجاري من 200 عضو. حث أنور الصين على تفعيل مبادرة الحزام والطريق لضمان دور فعال لماليزيا، والتقى بعدد كبير من رجال الأعمال الماليزيين والصينيين. وطالب بتسريع مشروع خط سكة حديد الساحل الشرقي، وهو مشروع بنية تحتية تشارك فيه الصين بقوة لربط ميناء كلانج في سيلانجور بكوتا بارو في كيلانتان.
الزيارة صاحبها زخم اقتصادي كبير، حيث شهدت توقيع 20 مذكرة تفاهم بين الشركات الماليزية والصينية، أمنت لماليزيا تعهدات استثمارية تاريخية بلغت 170 مليار رنجت، وهو الرقم الأكبر من الصين حتى الآن، لتعزيز الاستثمارات في التكنولوجيا الخضراء والاقتصاد الرقمي والزراعة الحديثة. وهو ما كان موضع إشادة من الأوساط الماليزية التي اعتبرته إشارة قوية وإيجابية للمستثمرين الدوليين. وتستعد ماليزيا لاستقبال أعداد غفيرة من السياح مرة أخرى بعد رفع إجراءات كورونا، ما يعني الحاجة لزيادة عدد الرحلات الجوية المباشرة بين كوالالمبور وبكين. وتناقش إمكانية افتتاح فرع لجامعة تسينغهوا الصينية الشهيرة في ماليزيا.
وتتويجًا للزيارة، وجه أنور إبراهيم دعوة إلى الرئيس الصيني شي جين بينغ لزيارة ماليزيا العام القادم للاحتفال بالذكرى الخمسين للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وكانت زيارة للرئيس الصيني عام 2013 عندما تم توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة.
الحياد الماليزي وتوازن العلاقات
يسعى أنور كسابقيه إلى الحفاظ على حالة التوازن في العلاقات مع واشنطن وبكين، مع التأكيد على استقلالية بلاده وهو ما صرح به خلال الزيارة بأن ماليزيا لن تسمح لأي قوة كبرى بإملاء قرارها أو رسم مستقبلها. أنور ربط سياسة عدم الانحياز بتوجه الآسيان المحايد، مشيرًا إلى أن ماليزيا كدولة تجارية، تريد بناء علاقات ممتازة مع جميع الدول، بما في ذلك الصين والولايات المتحدة. ورغم ملفات الخلاف، يرى أن الصين ليست مصدرًا لأي تهديد مباشر، بل جار وصديق يستفاد من نجاحه.
القضايا الخلافية بين البلدين عادًة لا تبرح حديث الغرف المغلقة، وعلى رأسها نزاع بحر الصين الجنوبي ومحاولات بكين فرض سيطرتها بشكل تدريجي وادعاء السيادة على أكثر من 90 في المائة من الممر المائي الاستراتيجي على الرغم من المطالبات الإقليمية للعديد من دول جنوب شرق آسيا بما في ذلك ماليزيا، وهو ما يضع بوتراجايا في حرج دبلوماسي. إضافة إلى قضية الأويغور، التي اعتادت ماليزيا التزام الصمت حيالها، واكتفت برفض تسليم أو ترحيل الأويغور من أراضيها، وبرر مهاتير محمد هذا الموقف في وقت سابق بأن الصين “دولة قوية للغاية” ويجب على بلاده إيجاد “طرق أخرى” للتعامل مع هذه القضية. القضية كانت محل اهتمام أنور قبل توليه منصبه الرفيع، ودعا بكين قبل عدة سنوات إلى احترام حقوق الأويغور، لكن أنور في موضع يجعله حريص على عدم الحديث عن تلك الملفات علانية وإنما مناقشتها في الاجتماعات المغلقة. رغم ذلك بدا كلا البلدين عازمان على تعزيز التعاون نظرًا لوجود إنجازات وفرص حقيقية.
في غضون ذلك، تحافظ كوالالمبور على علاقات اقتصادية وأمنية قوية مع واشنطن، وبلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين 72.9 مليار دولار عام 2022.
نقطة القوة الماليزية تكمن في كونها سادس أكبر مصدر لأشباه الموصلات في العالم، التي عادًة ما تكون هدفًا للعقوبات الأمريكية التي تهدف إلى إعاقة قطاع التكنولوجيا في الصين، وهو ما قد يؤثر على الشركات الماليزية التي تشكل جزءًا من سلسلة التوريد الصينية. لكن ماليزيا بشكل آخر تُعَد أحد الدول المستفيدة من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين إلى جانب دول أخرى مثل فيتنام وتايوان وتشيلي. كما تلعب ماليزيا على وتر الحرب التجارية بين قطبي الكوكب مروجة نفسها كوجهة مفضلة للمستثمرين الصينيين وزيادة الصادرات الماليزية.