استقال محي الدين ياسين من رئاسة وزراء ماليزيا بعد محاولات عديدة باءت بالفشل في توحيد أحزاب التحالف الوطني الحاكم ومحاولات استمالة المعارضة. فيما وضعت الاستقالة التي طال انتظارها نهاية أقصر حكومة في ماليزيا بعد سبعة عشر شهرًا فقط من وصول محي الدين إلى سدة الحكم.
جاءت الاستقالة بعد انسحاب حزب أومنو، أكبر حليف داخل الائتلاف الحاكم والذي كان سببًا رئيسيًا في وصول محي الدين إلى المنصب الأعلى، بعد أن قامت كتلة من النواب قوامها 15 نائبًا بزعامة رئيس الحزب أحمد زاهد حميدي بإبلاغ الملك بسحب دعمهم للحكومة والمطالبة باستقالة محي الدين. وهو ما حال بين اختبار حجم الدعم داخل البرلمان الذي خطط له محي الدين في جلسة البرلمان المزمع انعقادها في سبتمبر المقبل.
أشار محي الدين في خطاب استقالته أمس إلى أن الأطراف التي تسببت في هذه النهاية خانت الشعب بالبحث عن مصالح ضيقة، كما ألمح رئيس الوزراء المستقيل إلى عدم استعداده للعمل مع الفاسدين في إشارة إلى رئيس حزب أومنو أحمد زاهد حميدي ورئيس الوزراء السابق نجيب رزاق المتهمين في قضايا فساد وتبديد المال العام، وقد تزعما حركة سحب الدعم منه قبل أسابيع.
فيما أعلن القصر الوطني قبول استقالة محي الدين وشكره السلطان عبدالله رعاية الدين المصطفى بالله شاه على خدمته في مكافحة كوفيد-19، كما كلفه برئاسة الوزراء انتقاليًا، حتى يؤدي الزعيم التالي اليمين الدستورية.
الزعيم المختار
يبقى اختيار الزعيم القادم للبلاد هو الاختبار الأصعب حاليًا في ظل غياب إجماع نواب البرلمان على شخصية يمكن للملك تكليفها بتشكيل الحكومة، كما أن البديل الذي سترضخ له جميع الأحزاب، وهو صندوق الانتخابات، يُعَد الأكثر خطورة إذا تمت في وقت مبكر لسد الفراغ السياسي ووضع حد للمناوشات بين النواب والأحزاب في ظل وقوع 79٪ من الدوائر الانتخابية تحت نطاق المناطق الحمراء بسبب الجائحة، مع تسجيل أرقام قياسية يومية لحالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد. كما استبعد القصر الوطني في بيانه أمس احتمالية الشروع في الانتخابات المبكرة في المستقبل القريب حفاظًا على أمن وسلامة البلاد.
كما أن الاستقالة قد تبدو ظاهرية، فمحي الدين لازال رئيسًا للوزراء من الناحية الفعلية مع تجنب عصى حجب الثقة التي لوحت بها المعارضة وأنهت 17 شهرًا من الاضطراب السياسي والصراع على السلطة. وكان قد قطع محي الدين وعدًا الأسبوع الماضي بتسليم السلطة والدعوة إلى الانتخابات المبكرة في موعد أقصاه منتصف العام القادم.
بدوره، وبعد عودة زمام الأمور إلى القصر الوطني، فقد دعا ملك ماليزيا السلطان عبدالله رعاية الدين المصطفى بالله قادة الأحزاب السياسية إلى اجتماع اليوم الثلاثاء 17/8/2021 بعد إعلان استقالة محي الدين رسميًا بيوم واحد. وحسب ما توفر لدينا من معلومات، فقد ارتكز لقاء الملك مع رؤساء الأحزاب على كيفية إعادة بناء البلاد عبر مشهد سياسي جديد وسبل إدارة جائحة كوفيد-19 دون الخوض في شخصية رئيس الوزراء القادم، ما يعني أن الأمر لا يزال في طور البحث داخل القصر للوصول إلى إجابة واضحة.
لا زالت ماليزيا تواجه أسوأ حالات تفشي فيروس كورونا في المنطقة، مع تجاوز إجمالي الإصابات حاجز المليون ونصف حالة، وباتت ماليزيا في انتظار عدة سيناريوهات للخروج من الأزمة الحالية.
السيناريو الأول:
وهو السيناريو المحتمل والذي يقضي بتكليف ملك ماليزيا أحد النواب الذي يحظى بأغلبية برلمانية برئاسة الحكومة وتشكيل مجلس الوزراء. فيما تقف معضلة الأغلبية حجر عثرة أمام ذلك القرار حيث لم يظهر على الساحة أحد من النواب مؤكدًا حصوله على دعم 111 من النواب وهو أقل عدد ينبغي توافره لرئاسة حكومة ماليزيا التاسعة. كما أن هناك عدة أسماء تردد صداها في الساحة السياسية الماليزية وبين الأحزاب المعنية مع رصد بعض تحركات تأمين الدعم اللازم. وتبين الحالة السياسية الماليزية غياب الدعم المطلوب لأي من النواب حتى الآن.
السيناريو الثاني:
وهو تشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع بين التحالف الوطني -الحكومة المستقيلة- وتحالف الأمل المعارض، وقد يؤدي هذا الخيار إلى الكثير من المماحكات السياسية بين الحلفاء السابقين والخصوم الحاليين ما يعني استمرار عدم استقرار الحكومة وغياب قدرتها على تمرير قراراتها وتشريعاتها إلى أن يحين موعد الانتخابات القادمة سواء كانت مبكرة أو في موعدها لعام 2023.
السيناريو الثالث:
وهو استمرار محي الدين لحين الدعوة إلى انتخابات عامة من خلال استمراره في قيادة البلاد مؤقتًا بشكل منفرد واقتصار دوره على التنسيق بين مؤسسات الدولة المختلفة، حيث تم تكليفه بقيادة الحكومة المؤقتة ولم يتم تكليف مجلس الوزراء بنفس الأمر.
من هو رئيس الوزراء التاسع ؟
ويبقى السؤال من هو المرشح المحتمل الذي سيكلفه ملك ماليزيا بعد أن يحظى بأغلبية برلمانية لرئاسة الحكومة وتشكيل مجلس الوزراء؟ ولعل أبرز القادة المرشحين لقيادة البلاد:
المرشح الأول:
إسماعيل صبري يعقوب، نائب رئيس الوزراء السابق ووزير أول الدفاع في حكومة محي الدين المستقيلة. كما يشغل صبري منصب نائب رئيس أومنو مما قد يمكنه من دعم نواب التحالف الوطني لاستكمال المسيرة التي بدأها محي الدين ياسين، مع عودة حزب أومنو إلى رأس السلطة مجددًا بعد خسارته التاريخية في 2018 أمام تحالف الأمل المعارض. كما تزيد حظوظ تسلم صبري زمام الأمور في البلاد كونه أبرز الوجوه التي تصدرت مشهد التعامل مع جائحة كورونا منذ اليوم الأول، فهو الوزير الأول ورئيس المجموعة الأمنية إلى أن ترقى لمنصب نائب رئيس الوزراء في الحكومة المقالة واعتادت وسائل الإعلام على ظهوره بشكل يومي لإعلان ما يتعلق بالإجراءات الاحترازية وما يتعلق بالوضع الوبائي في البلاد والقرارات الأمنية المستجدة.
ومع انتشار تقارير حول اعتزام محي الدين ياسين تقديم استقالته من منصبه كرئيس الوزراء، رصدت وسائل الإعلام تحركاته ولقاءاته بقادة الأحزاب على اختلاف توجهاتها بحثًا عن دعمهم لشغل المنصب الأعلى. ووفقًا لما نشرته وسائل الإعلام المحلية عشية استقالة محي الدين، فإن صبري قد التقى برئيس حزب أومنو الذي بدا على خلاف معه خلال الأيام الماضية بعدما رفض صبري تنفيذ قرار الحزب بسحب الدعم من حكومة التحالف الوطني والاستقالة من منصبه. كما التقى رئيس حزب بيجوانغ ورئيس وزراء ماليزيا السابق الدكتور مهاتير محمد لطلب دعمه لكن مهاتير فضل عدم دعمه كرئيس للوزراء مصرًا على اقتراح سابق وهو تشكيل مجلس تعافي وطني لإدارة البلاد في ظل الجائحة.
فيما خرج نواب من أومنو لتوقيع خطاب دعم رسمي يؤيدون فيه تعيين صبري في منصب رئيس الوزراء، داعين باقي نواب الحزب لأن يحذوا حذوهم. فيما تقول مصادر إن حزب أمنو وقيادته قرروا ترشيح إسماعيل صبري لحكم البلاد رغم الخلاف الذي طرأ للعودة بالحزب لقيادة البلاد في الفترة المقبلة وبهذا سيكون إسماعيل صبري الأوفر حظًا لشغل منصب رئيس الوزراء الماليزي التاسع.
المرشح الثاني:
زعيم المعارضة الحالي ورئيس حزب عدالة الشعب أنور إبراهيم، مما يعني عودة تحالف الأمل إلى السلطة بعد سقوطه في فبراير من العام الماضي نتيجة استقالة مهاتير محمد المفاجئة. لكن موقف أنور من الأغلبية لم يحدد خاصة مع انسحاب العديد من نواب تحالفه وانضمامهم إلى التحالف الوطني خلال ما عرف باسم “تحرك شيراتون” الذي شارك في قيادته نائبه في حزب عدالة الشعب عزمين علي. كما أن حليفه السابق مهاتير محمد أنشأ حزبًا جديدًا خارج تحالف الأمل، ما يجعل مهمة زعيم المعارضة للفوز برئاسة الوزراء أمرًا صعبًا.
ويبدو أن أنور لم يحظى بالأغلبية البرلمانية كما صرح بذلك، ففي أكتوبر الماضي شكك أنور إبراهيم في امتلاك محي الدين للأغلبية البرلمانية كما عقد لقاءًا خاصًا مع ملك ماليزيا لإثبات أحقيته بالمنصب، لكن القصر الوطني أكد حينها بأن زعيم المعارضة لم يدعم ادعائه بأسماء النواب الداعمين له.
مستقبل العلاقات مع السعودية
أعادت حكومة التحالف الوطني إصلاح العلاقات الخارجية التي تضررت خلال فترة حكم تحالف الأمل بزعامة مهاتير محمد، وخاصة العلاقات الثنائية مع المملكة العربية السعودية. شهد على ذلك تصريحات وزير الخارجية الماليزي في يومه الأول من توليه منصبه في مارس العام الماضي، الرافضة لنهج تحالف الأمل المتصادم مع الرياض وعزمه على العمل عن قرب مع الجانب السعودي لرأب الصدع. فيما ترجمت تصريحاته بمزيد من التعاون بين الرياض وكوالالمبور توجته زيارات رسمية رفيعة المستوى إلى الرياض بزيارة رئيس الوزراء السابق محي الدين ياسين مطلع هذا العام.
كما كانت مواقف السعودية خير دليل على تحسن العلاقات مع تشكيل مجلس تنسيق سعودي ماليزي مشترك، وإرسال مساعدات طبية هي الأضخم إلى ماليزيا لمساندتها في مواجهة الجائحة العالمية.
بناء على ذلك، فإن وصول إسماعيل صبري أو أحد القادة الأخرين من أومنو سوف يعني استمرار نمو العلاقات ورفع مستوى أطر التعاون بين البلدين فهو رجل أومنو الذي حكم البلاد لستة عقود شهدت فيها العلاقات بين البلدين متانًة وتطورًا.
أما في حال عودة تحالف الأمل إلى الحكم عن طريق تكليف زعيم المعارضة أنور إبراهيم أو أحد المنتمين إلى التحالف فإنه سيميل إلى تطوير العلاقات مع دول كقطر وتركيا والميل للتوجه الديني الإخواني ومن المحتمل أن تحذو سياسته حذو حليفه السابق مهاتير محمد مما قد يعيد الاضطراب في العلاقات بين ماليزيا والسعودية مجددًا.
لكن على المدى المتوسط والقريب فإن بوصلة المرشحين لرئاسة الوزراء ستتجه داخليًا نحو التركيز على استقرار البلاد ومكافحة الوباء المستجد الذي أودى بحياة الآلاف وسجل إصابات قياسية يومية، إلى جانب البحث عن مخرج للتعافي الاقتصادي الراكد من خلال دعم خارجي أو استثمارات أجنبية.