قمة الآسيان والولايات المتحدة
بوابة ماليزيا لموازنة العلاقات مع واشنطن وبكين
تسعى ماليزيا لكسب جميع الأطراف وتحقيق أكبر قدر من المنافع الاقتصادية والتجارية التي تمكنها من التعافي من آثار جائحة كورونا التي أصابت اقتصادها في مقتل. وتحقيقا لذلك أبقت الحكومة الحالية بقيادة إسماعيل صبري الباب مفتوحا لقطبي الاقتصاد العالمي واشنطن وبكين متغاضية عن نقاط الخلاف وعازمة على عدم الانحياز إلى طرف دون آخر. فمن جانب تشجع الولايات المتحدة بزيادة استثماراتها في مجال التكنولوجيا المستدامة والسيارات الكهربائية مع مطالبتها كذلك برفع العقوبات عن شركات المطاط وزيت النخيل ماليزية المتهمة بالعامل القسري وتدمير البيئة. وعلى الجانب الآخر، تسعى لتوطيد العلاقات مع الصين أكبر شريك تجاري لماليزيا لكنها تستنكر في الوقت نفسه الصيد غير القانوني والتعدي على مياهها في بحر الصين الجنوبي. وجاءت قمة الآسيان والولايات المتحدة في واشنطن لتعزز ماليزيا من وجودها الدولي وكذا تحقيق نتائج إيجابية على مستوى العلاقات الدبلوماسية والتجارية والاقتصادية.
لقاء طال انتظاره وعهد جديد
استضاف الرئيس الأمريكي جو بايدن قادة دول جنوب شرق آسيا في واشنطن لإظهار التزام إدارته تجاه منطقة جنوب شرق آسيا لمجابهة النفوذ الصيني المتزايد. القمة هي الثانية التي يستضيفها رئيس أمريكي، حيث كانت المرة الأولى بدعوة من الرئيس السابق باراك أوباما عام 2016، بينما تعمد دونالد ترامب تجاهل قادة الرابطة وأهمل معاهدة للتجارة الحرة عبر المحيط الهادئ كان قد اقترحها أوباما.
بايدن كان قد التقى بالقادة افتراضيا في أكتوبر العام الماضي وأعلن حينها عن مشاركة أمريكية بقيمة 102 مليون دولار لتنمية البنى التحتية لدور رابطة الآسيان، وكشف خلال قمة هذا الأسبوع عن تخصيص 150 مليون دولار للغرض ذاته في محاولة لخطب ود دول المنطقة. لكن تلك الأرقام لا ترقى لمستوى المساعدات الأمريكية الموجهة إلى أوكرانيا على سبيل المثال والتي تجاوزت حتى الآن 40 مليار دولار ولا بمليارات الصين أكبر شريك تجاري لدول الآسيان رغم خلافاتها مع عدد من أعضاء الرابطة مثل فيتنام والفلبين. وكانت الصين قد تعهدت نوفمبر الماضي بإنفاق 1.5 مليار دولار على جهود مكافحة جائحة كورونا وتعزيز التعافي الاقتصادي على مدار ثلاث سنوات، وذلك خلال قمة خاصة للاحتفال بالذكرى الثلاثين لعلاقات الحوار بين الآسيان والصين.
وفي ختام القمة التي استمرت ليومين، تعهد الزعماء برفع علاقتهم إلى “شراكة استراتيجية شاملة” في نوفمبر القادم، وهي خطوة رمزية لتتويج ما وصفه بايدن ببداية “حقبة جديدة” في العلاقة بين الولايات المتحدة ورابطة الآسيان ذات الـ 10 دول. وغلب طابع الآسيان الحيادي على بيان القمة فلم يتم إدانة أي من روسيا أو الصين بشكل مباشر، رغم محاولات واشنطن إقناع قادة جنوب شرق آسيا بتشديد مواقفهم من الغزو الروسي لأوكرانيا.
وفي المجمل، حملت هذه القمة رسالة إلى بكين مفادها أن واشنطن وإن بدت منشغلة بملف الغزو الروسي لأوكرانيا، تضع عينها على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مع إرسال سفينة خفر سواحل أمريكية للمساعدة في مواجهة ما تصفه أمريكا ودول المنطقة بالصيد غير القانوني للصين في بحر الصين الجنوبي. أما بالنسبة لـ “الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ” الذي أعلن عنه وزير الخارجية أنتوني بلينكن نهاية العام الماضي في جاكرتا، فيبدو أنه لن يتم إطلاقه قبل زيارة بايدن لليابان.
حضر القمة قادة بروناي وإندونيسيا وكمبوديا وسنغافورة وتايلاند ولاوس وفيتنام وماليزيا والفلبين، ومثل الفلبين وزير خارجيتها نظرا لإجراء الانتخابات الرئاسية الأسبوع الماضي، بينما بقي مقعد بورما (ميانمار) فارغاً.
تحريك المياه الراكدة في العلاقات الثنائية
تبدو صفحة الزيارات الرسمية على مستوى القادة بين واشنطن وكوالالمبور في حالة جفاف ملحوظ، فقد كان باراك أوباما أول رئيس أمريكي تطأ قدماه أرض ماليزيا منذ عام 1966 حينما زارها عام 2014 خلال جولة آسيوية لتعزيز تحالفاته لمواجهة النفوذ المتزايد للصين. وهو السبب ذاته الذي من أجله التقى بايدن بزعماء رابطة آسيان هذا الأسبوع.
ماليزيا التي شدهت تضارب في السياسات وتخبط بين النخب السياسية منذ سقوط حكومة الجبهة الوطنية في 2018، كانت تحاول خلق حالة من التوازن في العلاقات مع كلا من الولايات المتحدة والصين، إلا أنها لم تصل لذلك الهدف. ومع وجود مهاتير محمد على رأس الحكومة لنحو عامين 2018-2020 شهدت العلاقات توترا مع واشنطن نظرا لحالة الاستفزاز السياسي التي كان يمارسها تارة بانتقاد العقوبات الأمريكية على إيران وتارة بانتقاد الرئيس السابق دونالد ترامب وسياسته، وهذا بالطبع إضافة إلى التوتر الذي حدث في العلاقات إبان فترة مهاتير الأولى (1981 – 2003) على خلفية حرب العراق وسياسات بوش الابن. وفي محاولتها إصلاح العلاقات مع واشنطن عام 2021، سلمت ماليزيا مواطنا كوريا شماليا إلى أمريكا ترتب عليه إعلان بيونج يانج قطع علاقاتها مع كوالالمبور. رغم ذلك تبقى الولايات المتحدة أحد أكبر شركاء ماليزيا التجاريين وأهم حليف لها منذ الاستقلال، ويشهد على ذلك مجلس الصداقة الماليزي الأمريكي الذي أُسس عام 2002 والعلاقة القوية بين نجيب رزاق وباراك أوباما.
وفي ظل امتعاض ماليزي من الاتفاقية العسكرية الثلاثية “اوكاس” التي وقعتها أمريكا مع بريطانيا وأستراليا، التي رأت فيها تهديدا للمنطقة وخطة في طريق سباق تسلح نووي، قام وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بزيارة ماليزيا في ديسمبر الماضي ضمن جولة جنوب شرق آسيوية، وسبقتها زيارة وزيرة التجارة الأمريكية جينا رايموندو في نوفمبر. الزيارات الأمريكية جاءت لطمأنة الجانب الماليزي وعكست حالة من الارتياح تجاه الحكومة الحالية بقيادة إسماعيل صبري بعد عودة حزب أومنو إلى سدة الحكم.
مواقف مشتركة والحياد سيد الموقف
تتفق ماليزيا والولايات المتحدة في العديد من القضايا الإقليمية والدولية ومنها قضية بحر الصين الجنوبي وضرورة الإبقاء عليه ممرا مائيا خاليًا من تدخل الغرباء، وكذلك ضرورة العودة إلى الديمقراطية والحوار في ميانمار وانتقاد العنف من جانب المجلس العسكري هناك، إضافة إلى رفض التدخل الروسي في أوكرانيا لأن “الحرب لا تفيد أحدا” وفقا لاسماعيل صبري. رئيس الوزراء الماليزي طالب واشنطن خلال القمة باستخدام نفوذها في حل القضية الفلسطينية ووقف الفظائع الإسرائيلية، بنفس الوتيرة السريعة التي اتخذتها في أوكرانيا.
لكن مسألة الانحياز لواشنطن على حساب بكين ليست ملفا للمساومة مع ماليزيا وأغلب دول الآسيان، رغم بقاء ملف النزاع على بحر الصين الجنوبي أحد أبرز مؤرقات السياسة الخارجية الماليزية. فالصين هي أكبر شريك تجاري لماليزيا منذ عام 2019، وقد استحوذت على 18.6 في المائة من إجمالي التجارة الماليزية في عام 2020. وبالنسبة للحرب في أوكرانيا، التي احتلت أولوية الأجندة الأمريكية وتسعى لضم ماليزيا وجيرانها إلى صفها، فقد أعلنت ماليزيا وقوفها على الحياد بل وصرحت بأنها لا تعترف بالعقوبات المفروضة على أي بلد دون قرار أممي في إشارة إلى العقوبات الأمريكية والغربية على روسيا. لكن هذا الشهر شهد مجازفة صارخة كادت أن تلقي بماليزيا ذاتها تحت طاولة العقوبات عندما صرح سفيرها لدى موسكو باستعداد بلاده للتعاون في توريد أشباه الموصلات وطالب برحلات جوية مباشرة بين البلدين. لكن وزير الخارجية سيف الدين عبدالله، خرج سريعا لنفي إجراء أي مناقشات مع روسيا بشأن الرحلات الجوية المباشرة وصادرات أشباه الموصلات، وذلك قبل توجهه إلى واشنطن بساعات.
فرصة سانحة للتعافي
تعول ماليزيا على تواجد رئيس الوزراء اسماعيل صبري والوفد الرفيع المرافق له في إحداث تأثير إيجابي على العلاقات الدبلوماسية والتجارية والاقتصادية لماليزيا. وبهذا الصدد، وقعت وزيرة التجارة الأمريكية جينا رايموند ووزير التجارة الدولية والصناعة الماليزي محمد عزمين بن علي مذكرة تعاون بشأن تعزيز سلسلة توريد أشباه الموصلات التي شهدت اضطرابا عالميا على وقع الحرب في أوكرانيا. المذكرة تهدف إلى خلق سلسلة توريد مرنة وآمنة ومستدامة لأشباه الموصلات. وبحثا عن المزيد من الاستثمارات الأمريكية تفرغ رئيس الوزراء إسماعيل صبري للقاء كبار المستثمرين ورجال الأعمال الأمريكيين لتقديم ماليزيا كوجهة استثمارية مميزة، لا سيما في قطاعات الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا الخضراء والسيارات الكهربائية، كما اقترح على شركة تسلا الاستثمار في بلاده في إنتاج السيارات الكهربائية. وحث صبري الرئيس الأمريكي على تبني أجندة تجارية واستثمارية أكثر نشاطا مع دول الرابطة باعتبارها أكبر مستثمر أجنبي مباشر وثاني أكبر شريك تجاري لها، حيث بلغ حجم التجارة الثنائية 308.9 مليار دولار في عام 2020. ووحد قادة ماليزيا وإندونيسيا خطابهم بشأن ضرورة تعزيز وحدة وقوة مركزية الآسيان في ضوء عدم اليقين العالمي عبر إبقاء صوت الآسيان مسموعًا.
بلغت قيمة التجارة الماليزية الأمريكية العام الماضي نحو 178 مليار رنجت ماليزي، في حين بلغ إجمالي حجم الاستثمارات الأمريكية في قطاع التصنيع الماليزي 3.7 مليار رنجت. وفي محاولة للتخفيف من عقوبات إدارة الجمارك وحماية الحدود الأمريكية على بعض شركات المطاط وزيت النخيل الماليزية، أقنع الوفد الماليزي قادة الولايات المتحدة بإنشاء لجنة عمل مشتركة لمعالجة قضية العمل القسري الذي تسبب في فرض تلك العقوبات.